Sunday, May 14, 2006

البرواز


و ... تسربت من بين أصابعي
علي السفح هشت نخلة. طارت حمامة. حطت داخل الدار القريبة. مشت الي سرب الحمام، بالتقريب الي ذكر معين ميزته بصوته. له هديل مميز...
اقتربت من عنقي، لمست عليه بشفتيها. الفانوس يرمي ضوءا شاحبا علينا. توزع الدخان و ترك بقايا سوداء في شكل اصابع علي زجاجته. لمست "العنقريب" باصابعي اليسري. مشت الاصابع علي حباله المهترئة من جانبه الاوسط. لم اجرؤ علي الجلوس خوف انقطاع الحبل. ابتعدت شفتاها. غاب وطن و حضر وطن. في الداخل يرسم الفانوس صورا شاحبة مهزوزة. متي تثبت الصور؟... عادت انفاسها من جديد. اشعر برغبة حميمة و تشويش و بقايا وطن مكسور.. عبثت يداها بالقميص. طعنت صدري نجمتان. فردت الحمامة ذيلها. طار زنبور من احدي الاركان. حلق حول الخلية ثم حط عليها. همست في اذني: الليل بارد و صامت
- الليل موحش، و أشد وحشة هذا الذي يداخلني
قالت لي في مرة سابقة: لو جئت دارنا لوجدت القمح و اللبن ساخنا
حاولت ان افهم هذا الذي يداخلني...
سارت الي جانبي صامتة. انتحينا مكانا قصيا. سوينا مجلسا و جلسنا. لم أدرك ان شيئا مثل هذا يمكن ان يفسح لتساؤل دائم. كنت قريبا جدا من المدارين و كانت فصول العشق تتحول داخلي الي سنابل في كل سنبلة مائة حبة. الا انني رأيت فيما يري النائم طيرا يملأ الفضاء. فاجأها صوت محموم خرج من داخلي: - بين حبك السنابل و المطر و الرجال
أحسست شيئا غائما يحاول ان يتشكل. تتساقط الاضواء نتفا تفتح في الداخل نفس الدوار. اشياء تحاول ان تتشبث بداخلي و اشياء توشك علي السقوط. قالت لي في مرة سابقة:- تعال الي دارنا، اغسل قدميك من طين الحقل و اجهز لك الحصير و البن
فاجأتني الاصوات تخرج من الأزقة و بيوت الطين و مرابع المدن تحاصرني، تطعن داخلي. قطعة الارض تبدو صغيرة و المحصول لا يكفي. جزء يأكله الطير و جزء يتراكم في مخازن التجار و الجزء الآخر للسابلة و المصابين بالفقر. أمشي علي الطريق ألعن. يطوقني "الجندب"، يحبس أنفاسي. أمد يدي. أفرد صدري. أصاب بالظمأ. يضربني "الجندب" ثم يبتعد. يضربني ثم يبتعد. أحس بإجهاد تام. تخرج من مكان ما تمد لي يدا. تقول:- هذا يصيبك لأنك لا تصبر عليه...
أري في عينيها وعدا ما...
- ألا تكف أبدا عن الانتفاض؟...
أري في عينيها وطنا مكسورا...
- يكفي الذي راح...
أري في عينيها ما لا أراه...
أصيح:- كفي...
تنحدر دموع ما لشئ ما...
حين بدأ الزمن يعتاد علي الجفاف كنت اتناول البلح الذي تجلبه من بستان جدها علي النيل. كان البلح يقع قبل ان تمتد اليه يد معروقة.. كنا نري السواعد القوية تسافر بعيدا ثم تعود بالحرير.. بعضها لا يعود أبدا.. تتدافع الدموع تبلل ساعدي.. تقول:- العمر يذهب. "الجندب" يكاد يقضي عليك. تعال إلينا تجد قمحا...
أضحك في مرارة..قمح؟!.. الباقي من مخزون الأعوام الماضية!.. لعل حشرات الأرض قد فعلت فعلها...
تتعلق عيناي بكتفيها. أحس بليل الجوع تنسكب فيه النيران ثم تنثقب عليه السماء... ألامسها. يدور المكان حولي دورتين. تموء قطة تتمسح بالواقفين. تتلاصق الأعضاء. أري شفتيها بين البحر و النيل تدندنان لحنا "للمريود". تتلامس الشفاه. أحس وطنا يبكي و وطنا تتقطع أنفاسه...
أقول:- أحبك و لا أقدر عليك...
تقول:- أنت تأخذني بجامع وجداني و جسدي...
و... تلتحم القصيدة
تسألني:- لماذا لا تذهب؟
أجيب:- ربما لا أعود...
تقول:- كثيرون يعودون بالحرير...
أقول:- و كثيرون ينفقون من العطش تماما كضواري الصحراء...
تسأل:- لماذا تتشاءم؟
أهمس:- لأنني أحبك...
و تلجمها الكلمات المتلاحقة... بيني و بين حبيبتي وطن مكسور... اتحامق كالأطفال. أثور. أكسر الأواني. أقذفها نحو الحائط ثم اتجمع بين أحضانها...
أهمس بصوت لا يقوي علي ان يفارق صاحبه الصبر:- كيف انكسر البرواز و النجار يصنع لصورتك الإطار؟...
تترقرق الدموع في عينيها... أقشعر. يداهمني حزن عميق. انفلت من بين أحضانها. أهرول... تسألني بصوت مرتجف:- أين تذهب؟...
أصيح ردا علي سؤالها:- لابد ان أعلم هذا النجار الغبي الطريقة المثلي لعمل البراويز
_____________________

هامش: "العنقريب" كلمة في المحلية السودانية تعني: مرقد من الحبال
"الجندب" نوع من الصراصير لونها "خاكي" كلون ملابس الجنود
"للمريود" للمحبوب
_____________________

No comments:

Post a Comment

Please do not abuse comments. I will delete any abuse and ban the abuser. Be nice and do not post irrelevant content. This is not a just me too blog. Thank YOU.

Social Bookmarks